جيش الأمس عبر بالسلاح… وجيش اليوم يعبر بالوعي

كتبت / نهى عبد السلام
منذ أكثر من خمسين عاماً، تحديدا في السادس من أكتوبر عام 1973، وقف جيل كامل على ضفة القناة يتسلح بالإيمان قبل السلاح. كان العبور حين ذاك معجزة من عند الله أولا والإرادة المصرية ثانيا، وقبل أن تنطلق المعركة كان المصريون تخلصوا من مرارة الهزيمة الذي خلّفتها نكسة 1967، فحرّروا عقولهم من الخوف واليأس، وأيقنوا أنه لا يوجد مستحيل أمام وعي يؤمن بالله والوطن ويعرف قيمة الأرض التي يجب ان تعود في حض الوطن من جديد.
فالشعب والجيش كانا في جبهة واحدة، يتشاركان الإيمان بالهدف نفسه، فقد تضافرت جميع الجبهات المختلفة سواء كانت من الإعلام، والتعليم، والفن والثقافة وتحولت من مجرد أدوات للتسلية أو المعرفة، الى سلاحًا موجهاً لبناء الوعي الوطني، تغرس الوطنية والثقة وتوحّد الصفوف وتزرع الأمل في قلوب الجنود والملايين من المصريين. لم تكن الحرب فقط على خط النار، بل في كل بيت وشارع ومدرسة، حيث وُلد جيل وطني واعي لديه إصرارًا جعل من المستحيل واقعًا ملموساً.
كان هذا هو العبور الحقيقي الذي مهّد الطريق لعبور القناة، حين سطّر جيش الأمس أعظم ملاحم البطولة، وقهر الأسطورة التي قيل إنها لا تقهر، وحوّل المستحيل إلى واقع من نور، كان الجندي المصري يقاتل بعقيدته قبل بندقيته، بوعيه قبل ذراعه، داخله إيمان لا يعرف الهزيمة.
ولكن إن كان جيش الأمس قد عبر القناة تحت وابل من النيران، فإن جيش اليوم يعيش معركة لا تقل خطرًا عنها، ان بجانب التسليح العسكري والجاهزية لاندلاع أي حروب محتملة، خاصة في ظل الظروف والمخاطر التي تحيط بنا، يخوض معركة أخرى لا تقل أهمية بل أشرس وهي معركة الوعي، فهي معركة بلا جبهات ولا دخان، سلاحها المعلومة، وميادينها الشاشات، وأبطالها كل من يملك فكرًا ناضجًا وإدراكًا حقيقيًا لما يُحاك ضد وطنه.
واليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، أصبحت حرب المعلومات مثل الرصاص الذي يغتال العقول. لم تعد الآلات الحربية وحدها هي التي تهدد حدودنا، بل الإشاعات، وتزييف الحقائق، وطمس الإنجازات والاستهانة بالجهود، التي تنال العقول وتحاول زعزعة ثقتنا بأنفسنا ومن وعينا الوطني. إنها حروب من نوع جديد تدس السم في العسل، تُستخدم فيها الشاشات بدلاً من البنادق، ووسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من المدافع.
وإن كان جنود الأمس قد عبروا القناة تحت النيران، فجنود اليوم مطالبون بعبور جدار آخر جدار الزيف الرقمي والتشكيك في كل انجاز يتحقق على ارض الوطن وتهميش القيم والمبادئ وترسيخ سياسة التفاهة والسخرية. إن عبور القناة كان بداية التحرير، أما عبور العقول اليوم فهو بداية الوعي. فحين ننتصر على اللامبالاة، ونميّز الحقيقة من التضليل، ونشارك في بناء الوطن بصدق ومسؤولية، نكون قد واصلنا طريق النصر ذاته بروحه ومعناه.
ان الفرق بين معركة الأمس ومعركة اليوم في الأمس، كان العدو واضحًا أمامنا، نعرف موقعه وسلاحه وخطوطه، أما اليوم، فالعدو يتسلل إلى العقول من خلف الشاشات، يزرع الشك في القيم، ويزيف الحقائق، ويخوض حربًا من نوع آخر تُعرف بـ “حروب الجيل الخامس” حيث يُستخدم الإعلام والمحتوى الزائف والشائعات كسلاح أشد فتكًا لتقسيم الشعوب وزرع الكراهية بداخلهم تجاه وطنهم. في الأمس، كان الجندي يُخاطر بحياته من أجل الأرض. واليوم، يخاطر الشاب بعقله ووعيه وهويته إذا لم يتحصّن بالفكر الصحيح والمعلومة الموثوقة.
في الأمس، كان الهدف هو تحرير التراب الوطني، واليوم الهدف هو تحرير الوعي الوطني من الزيف والتضليل واللامبالاة. جيش الأمس كان يزرع في كل شبر من القناة بطولات، وجيش اليوم مطالب أن يزرع في كل مساحة رقمية وواقعية حقيقة ووعيًا وانتماءً.
في الأمس، كانت الخطة العسكرية سرّ النصر، واليوم الخطة الفكرية والإعلامية هي طريق الحماية والبقاء. حين كان الجندي يواجه دبابة، كنا نعرف أن الصمود هو الحل. واليوم حين نواجه موجات من الأكاذيب والتزييف، فإن التفكير النقدي، والتحقق من المصادر، والتمسك بالهوية هي دروعنا الجديدة.
نصر أكتوبر لم يكن نهاية العبور، بل بدايته. عبور السلاح كان جسديًا، أما عبور اليوم فهو ذهني ومعنوي. فكما كان الجندي المصري في 1973 رمزًا للشجاعة، فإن المواطن الواعي اليوم هو جندي من نوع آخر يحمي وطنه من حملات التزييف، ويصون تاريخه من التحريف، ويبني وعي أمة تعرف أن قوتها الحقيقية لا تكمن في عتادها فقط، بل في وعي أبنائها. فالمعركة مستمرة، والنصر الحقيقي لا يُقاس فقط بما نحرره من أرض، بل بما نحميه من وعي واتحاد والتصدي لأهل الشر المتربصين بنا.